فصل: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية: {ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من الإعجاز العلمي في القرآن:

للدكتور زغلول النجار.
بحث بعنوان: من أسرار القرآن:

.الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية: {ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا}:

بقلم الدكتور: زغلول النجار:
هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في مقدمات سورة النبأ، وهي سورة مكية، شأنها شأن كافة السور المكية يدور محورها حول قضية العقيدة، تلك القضية الغيبية التي لا يمكن للإنسان أن يصل فيها إلى تصور صحيح أبدا بغير هداية ربانية، ومن هنا كانت من قواعد الدين الذي من لوازم صحته أن يكون وحيا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من الصياغة أو التصورات البشرية.
ومن أصول العقيدة الإسلامية الإيمان بالبعث وبالحساب والجزاء، وبالخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا، أو في النار أبدا، والإيمان بالبعث هو موضوع سورة النبأ ومحورها الأساسي، وذلك لأن إنكار البعث كان حجة كفار قريش، كما كان حجة الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين، كفرا برب العالمين، وجهلا بطلاقة قدرته التي لا تحدها حدود، أو قياسا للقدرة الالهية بقدرات البشر المحدودة ظلما وعدوانا وجهلا بمدلول الألوهية الحقة، ومن ثم عجز الكافرون عن تصور إمكانية البعث، أو تعاجزوا عنه انصياعا لشهواتهم التي يرون ممارستها دون أدني مسئولية أو مساءلة فانطلقوا في انكار البعث، وما يستتبعه من الحساب والجزاء، وفي التشكيك في كل ذلك وهو من صلب الدين الذي جاء به آلاف من الانبياء، ومئات من المرسلين، وتكامل في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.
ومن أجل التأكيد على حقيقة البعث بعد الموت وما يستتبعه من حساب وجزاء ابتدأت سورة النبأ باستنكار تساؤل الكافرين عنه تساؤل المنكر له أو المتشكك في امكانية وقوعه، وألمحت بالتهديد القاطع لكل منكر أو متشكك في تلك الحقيقة الربانية الحاسمة، ثم أوردت عددا من الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة الالهية في إبداع الخلق لكي تكون شاهدة على أن الخالق المبدع قادر على افناء خلقه وعلى إعادة بعثه...!!!، ولذلك أكدت السورة على حقيقة يوم البعث وأهواله، وسمته باسم يوم الفصل لأنه يوم قد وقته ربنا تبارك وتعالى للفصل بين العباد، سيجمع له كافة الخلق من الأولين والآخرين بعد فنائهم أجمعين وفناء الكون كله من حولهم، وذلك لحسابهم على ما قد قدموا في حياتهم الدنيا، ولجزائهم الجزاء الأوفي على ذلك..!!!
ثم تعرج بنا السورة على بعض صور العقاب الذي أعده ربنا تبارك وتعالى للطاغين من الكفار والمشركين والمتجبرين في الأرض من المنكرين لدين الله، والمكذبين بآياته، والغافلين عن حسابه، وذلك بإدخالهم إلى جهنم- وبئس المصير- التي تترصد بهم، وتستعد لاستقبالهم وفيها من صور العذاب المهين ما نسأل الله تعالى أن يجيرنا منه..!!!
وللمقارنة بين مصير هؤلاء الطاغين المكذبين ومصير عباد الله المتقين، تحدثت السورة عن شيء من جزاء المتقين من جنات ونعيم مقيم فضلا ورحمة من رب العالمين.
وختمت السورة الكريمة بتصوير شيء من أهوال يوم القيامة، وبدعوة الناس كافة إلى الاستعداد لهذا اليوم الذي سوف يعود الخلق فيه إلى الله، ليقفوا جميعا بين يديه للحساب، وأن يأخذوا حذرهم حتي تحسن عودتهم، ويهون حسابهم فينجوا من العذاب المهين، ويرفلوا في جنات النعيم المقيم...!!!
وتضمن ختام سورة النبأ التحذير من عذاب يوم القيامة، حيث ينظر كل إنسان صحيفة أعماله في هذه الحياة، وفيها كل ما قد قدمت يداه، فيحمد المتقون الله على حسن هدايته وتوفيقه ويتمني كل كافر لو يستحيل ترابا أملا في تحاشي هول هذا اليوم وهول المصير الأسود من بعده ولكن هيهات هيهات أن يفر أحد من حساب الله وجزائه العادل...!!!
ومن الآيات الكونية التي قدمها ربنا تبارك وتعالى بين يدي سورة النبأ شاهدة له سبحانه بطلاقة القدرة في إبداعه لخلقه، ومؤكدة إمكانية البعث بل حتميته وحقيقته جاء قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا} وهاتان الآيتان يمر عليهما الانسان دون إدراك حقيقي لفضل الله تعالى في الانعام بهما ولا بعمق الدلالة العلمية في كل منهما، لأن حقيقة ذلك لم يدركها العلماء المتخصصون الا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وهذا السبق القرآني صورة من صور الاعجاز العلمي في كتاب الله سنعرض لها إن شاء الله تعالى في الأسطر التالية بعد شرح الدلالة اللغوية لألفاظ الآيتين الكريمتين واستعراض لأقوال المفسرين فيهما.

.الدلالة اللغوية:

صورة لاحدى السلاسل الجبلية التي طالما وصفت بأنها مجرد نتوءات فوق سطح الأرض من الألفاظ المهمة لفهم دلالة الايتين الكريمتين ما يلي:
أولا: (الأرض): وهي لفظة في اللغة العربية تدل على اسم الكوكب الذي نحيا عليه، في مقابلة بقية الكون الذي يجمع تحت اسم السماء أو السماوات. ولفظة (الأرض) مؤنثة، وأصلها (أرضة) وجمعها (أرضات) و(أرضون) بفتح الراء أو بتسكينها وقد تجمع على (أروض) و(أراض)، ولفظة (الأراضي) تستخدم على غير قياس.
ولما كانت (الأرض) دون السماء فإن العرب قد عبروا بلفظة (الأرض) عن أسفل الشيء، كما عبروا بالسماء عن أعلاه، وقالوا: (أرض أريضة) أي حسنة النبت أو حسنة (الأرضة) كما يقال: (تأرض) النبت بمعني تمكن على (الأرض) فكثر، و(تأرض) الجدي اذا أكل نبت (الأرض)، ويقال كذلك (أرض نفضة) و(أرض رعدة) أي تنتفض وترتعد أثناء حدوث كل من الهزات الأرضية والثورات البركانية.
و(الأرضة) حشرة تأكل الخشب، يقال: (أرضت) الأخشاب (تؤرض) (أرضا) فهي (مأروضة) اذا أكلتها (الأرضة).
ثانيا: (المهاد): (المهاد) والمهد في اللغة العربية الممهد الموطأ من كل شيء، ويطلق على الفراش لبسطه وسهولة وطئه، يقال: (مهد) الفراش أي بسطه ووطأه، و(المهد) ما يهيأ للصبي من فراش وثير و(تمهيد) الأمور اصلاحها وتسويتها، يقال: (مهدت) لك كذا أي هيأته وسويته، و(تمهيد) العذر هو بسطه وقبوله.
قال تعالى: {ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} (آل عمران: 46).
وقال سبحانه وتعالى:
{الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا..} (طه: 53).
وقال تبارك وتعالى: {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون} (الروم: 44).
وقال عز من قائل: {ومهدت له تمهيدا} (المدثر: 14).
وقال سبحانه: {والأرض فرشناها فنعم الماهدون} (الذاريات: 48).
ثالثا: (والجبال) والأجبال: جمع (جبل) وهو المرتفع عما حوله من الأرض ارتفاعا ملحوظا يجعله يعظم ويطول، ودونه (التل) ودون التل (الربوة) أو (الأكمة)، ودون الأكمة (النجد) أو (الهضبة)، ودون الهضبة (السهل).
ويقال: (أجبل) القوم أي صاروا إلى (الجبال) بمعني وصلوا إليها، أو دخلوها وسكنوا فيها، ويقال للحية: (ابنة الجبل) لأن الجبل مأواها، كما يقال لصدي الصوت (ابن الجبل) لأن (الجبل) يردده، ويقال للداهية (ابنة الجبل) لأنها تثقل على النفس كأنها (الجبل).
و(الجبلة) و(الجبلة) و(الجبلة) و(الجبلة) القوة البدنية أو صلابة الأرض و(الجبال): البدن، يقال: فلان (مجبول) أو (خطير الجبال) أي عظيم البدن تشبيها بالجبل، و(تجبل) ما عنده أي استنظفه، و(الجبل) أيضا ساحة البيت، أو الكثير من كل شيء، يقال: (مال جبل) و(حي جبل) أي كثير، و(الجبل) و(الجبلة) الجماعة من الناس وفيها قراءات قرئ بها قوله تعالى: {ولقد أضل منكم جبلا كثيرا} بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، كما قرئ بضم أو فتح الجيم وتسكين الباء. وبضم كل من الجيم والباء وتشديد اللام أو تخفيفها.
و(الجبلة) الخلقة أو الفطرة وأصله الوجه وما استقبلك منه، ومنه قوله تعالى: {والجبلة الأولين} بكسر الجيم أو ضمها وكسر الباء او تسكينها والجمع (الجبلات). ومنها أخذت تسمية السائل الذي يملأ جدار الخلية الحية باسم الجبلة (البروتوبلازم أو السيتوبلازم).
يقال: (جبله) الله (جبلا) أي خلقه وفطره، اشارة إلى ما ركب فيه من طباع، و(الجبلي) الفطري، و(الجبلة) الأصل، و(الجبل) الغليظ، يقال: فلان ذو (جبلة) أي غليظ الجسم، و(جبل) أي صار كالجبل في الغلظ، ويقال: (جبل) التراب (جبلا) أي صب عليه الماء ودعكه حتي صار طينا، ويقال: (جبله) أي قطعه قطعا شتي، كما يقال فلان (جبل) لا يتزحزح تصورا لمعني الثبات فيه.
رابعا: (أوتادا) و(الأوتاد) جمع (وتد) بكسر التاء وبفتحها، والكسر أولي، وفعله (وتد)، والأمر منه (تد) بالكسر، و(الأوتاد) قطع من خشب أو حديد غليظة الرأس، مدببة النهاية، تثبت بها أركان الخيمة في الأرض بدكها حتي يدفن أغلبها في الأرض، ويبقي أقلها ظاهرا فوق السطح، فتشد بذلك العمق أركان الخيمة إلى الأرض فتثبتها وتجعلها قادرة على مقاومة فعل الرياح، والعواصف الهوجاء.
ويأتي التعبير بـ: {ذي الأوتاد} في استعارة مجازية بمعني كثير الجنود والعساكر الذين يشدون الملك ويثبتونه كما تشد الأوتاد أركان الخيام إلى الأرض فتثبتها نظرا لكثرة خيامهم التي يضربون أوتادها في أرض معسكراتهم، كما قد تأتي في معني صاحب الأبنية العظيمة الشاهقة التي تشبه في عمق أساساتها أوتاد الجبال، وفي ارتفاعها علو الجبال وذلك من مثل قول الحق تبارك وتعالى: {وفرعون ذي الأوتاد} (الفجر: 10).

.شروح المفسرين:

ذكر ابن كثير يرحمه الله في تفسير قول الحق تبارك وتعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا}: أي ممهدة للخلائق، ذلولا لهم، قارة، ساكنة، ثابتة، وفي قوله تعالى: {والجبال أوتادا}: أي جعل لها أوتادا، أرساها بها، وثبتها، وقررها حتي سكنت، ولم تضطرب بمن عليها.. وذكر صاحبا تفسير الجلالين غفر الله لهما كلاما مشابها إذ قالا: {ألم نجعل الأرض مهادا} أي فراشا كالمهد صالحة للحياة عليها؟ {والجبال أوتادا} أي تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد لئلا تميد بكم، والاستفهام للتقرير.
وقال صاحب الظلال رحمه الله رحمة واسعة: والمهاد: الممهد للسير، والمهاد اللين كالمهد.. وكلاهما متقارب، وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته، فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية، وكون الجبال أوتادا ظاهرة تراها العين كذلك حتي من الإنسان البدائي، وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس، غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدي مما يحسه الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد، وكلما ارتقت معارف الإنسان، وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره، كبرت هذه الحقيقة في نفسه، وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم، واعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها، واعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها.
وجعل الأرض مهادا للحياة- وللحياة الإنسانية بوجه خاص- شاهد لا يماري في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر، فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها، أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض.. الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا، ولا يبقي هذه الحقيقة. التي يشير إليها القرآن الكريم هذه الإشارة المجملة، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه..
وجعل الجبال أوتادا.. يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها. أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها..
وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال.. وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية.. وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد.. وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم، ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين!
وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن رحمه الله ما نصه: {مهادا} فراشا موطأ كالمهد، لتمكينكم من الاستقرار عليها والتقلب في أنحائها، والانتفاع بما أودعناه لكم فيها.
والمهاد: مصدر بمعني ما يمهد، وجعلت به الأرض مهادا مبالغة في جعلها موطئا للناس والدواب يقيمون عليها. أو بتقدير مضاف، أي ذات مهاد، {والجبال أوتادا} كالأوتاد للأرض، أي أرسيناها بالجبال لئلا تميد وتضطرب، كما يرسي البيت بالأوتاد لئلا تعصف به الرياح. جمع وتد بفتح التاء وكسرها- وفعله كوعد، وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: ألم يروا من آيات قدرتنا أنا جعلنا الأرض ممهدة للاستقرار عليها والتقلب في أنحائها!! وجعلنا الجبال أوتادا للأرض تثبتها وفي تعليق هامشي أضافوا ما نصه: يبلغ سمك الجزء الصلب من القشرة الأرضية نحو 60 كيلو مترا، وتكثر فيه التجاعيد فيرتفع حيث الجبال وينخفض ليكون بطون البحار وقيعان المحيطات، وهو في حالة من التوازن بسبب الضغوط الناتجة من الجبال، ولا يختل هذا التوازن إلا بعوامل التعرية، فقشرة الأرض اليابسة ترسيها الجبال كما ترسي الأوتاد الخيمة.
وذكر صاحب صفوة التفاسير بارك الله فيه ما نصه:
{ألم نجعل الأرض مهادا} أي ألم نجعل هذه الأرض التي تسكنونها ممهدة للاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها؟ جعلناها لكم كالفراش والبساط لتستقروا على ظهرها، وتستفيدوا من سهولها الواسعة بأنواع المزروعات؟ {والجبال أوتادا} أي وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض تثبتها لئلا تميد بكم كما يثبت البيت بالأوتاد، قال في التسهيل، شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد.
ألم نجعل الأرض مهادا؟ في منظور العلوم الحديثة استضاءة بمفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض وصلت الدراسات الحديثة في هذا المجال إلى أن الأرض بدأت بمحيط غامر، ثم بتصدع قاع ذلك المحيط وبدء تحرك الألواح الصخرية المكونة لذلك القاع متباعدة عن بعضها البعض في أحد أطرافها، ومصطدمة في الاطراف المقابلة، ومنزلقة عبر بقية الأطراف، نتج عند الاطراف المتصادمة أعداد من اقواس الجزر البركانية التي نمت بالتدريج إلى عدد من القارات بمزيد من تصادمها، فتمايزت ألواح الغلاف الصخري للأرض إلى الألواح المحيطية، وتلك القارية، وبتصادم الواح قيعان المحيطات بكتل القارات تكونت سلاسل الجبال الشبيهة بجبال الإنديز على الحافة الغربية لأمريكا الجنوبية، وبتصادم ألواح القارات مع بعضها تكونت أعلى السلاسل الجبلية على سطح الأرض من مثل سلاسل جبال الهيمالايا التي نتجت عن اصطدام كتلة الهند بكتلة قارتي آسيا وأوروبا.
ومع تكون الأطواف، والمنظومات والسلاسل والأحزمة الجبلية ومجموعاتها المعقدة أصبح سطح الأرض على درجة من وعورة التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدأت عمليات التجوية والتحات والتعرية في بري تلك المجموعات الجبلية والأخذ من ارتفاعاتها باستمرار، وبنقل الفتات الصخري الناتج عن تلك العمليات إلى أحواض المحيطات والبحار بدأت دورة الصخور التي لا تزال تتكرر ملايين المرات إلى يومنا الراهن لتكسو منخفضات الأرض بالتربة اللازمة للانبات والزراعة، ولتركز العديد من الثروات المعدنية، ولتزيد من ملوحة البحار والمحيطات حتي تجعلها صالحة لحياة البلايين من الكائنات الحية، ولتحفظ هذا الماء من الفساد، ولتركز معادن المتبخرات في صخور الأرض.
ولما كانت عمليات التجوية والتحات والتعرية تزيل كميات كبيرة من الصخور المكونة لمرتفعات سطح الأرض كان من ضرورات الاتزان الأرضي أن تتحرك الصهارة الصخرية تحت الغلاف الصخري للأرض لتعوض فقدان الكتل التي تمت تعريتها، ولتحقق الاتزان الأرضي بتعديل الضغوط في داخل الأرض، ويؤدي ذلك إلى رفع الجبال بطريقة تدريجية.
وباستمرار تفاعل تلك القوي المتصارعة من عمليات التجوية والتعرية المقترنة بعمليات تحرك الصهارة الصخرية تحت الغلاف الصخري للأرض وفي داخله، وعمليات رفع الجبال لتحقيق التوازن الأرضي لفترات زمنية طويلة فإنها تنتهي بإنقاص سمك سلسلة الجبال إلى متوسط سمك لوح الغلاف الصخري الذي تتواجد عليه، وذلك بسحب جذور الجبال (الامتدادات الداخلية للجبال) من نطاق الضعف الأرضي ورفعها حتي تظهر على سطح الأرض، وبخروج جذور الجبال من نطاق الضعف الأرضي الذي كانت طافية فيه كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات، فإن الجبال تفقد القدرة على الارتفاع إلى أعلى، وتظل عوامل التعرية في بريها حتي تسويها بسطح الأرض تقريبا وحينئذ تنكشف جذور الجبال، وبها من الثروات المعدنية ما لا يمكن أن يتواجد الا تحت مثل ظروف اوتاد الجبال التي تتميز بقدر هائل من الضغط والحرارة.
وعلى هذا النحو فإن الجبال قد لعبت- ولا تزال تلعب- دورا مهما في بناء قارات الأرض وفي الزيادة المستمرة لمساحة تلك القارات بإضافة الكتل الجبلية إلى حواف تلك القارات بطريقة مستمرة.
ومعني ذلك أن كل قارات الأرض بدأت بسلاسل من أقواس الجزر البركانية في وسط المحيط الغامر، وأن باصطدام تلك الجزر تكونت القارات على هيئة أطواف ومنظومات وسلاسل وأحزمة جبلية معقدة، وأن تلك المرتفعات جعلت سطح الأرض على درجة من وعورة التضاريس لا تسمح بعمرانها، ثم بدأت سلسلة من الصراع بين العمليات الأرضية الداخلية البانية للجبال والرافعة لها، والعمليات الهدمية الخارجية التي تبريها وتعريها، وفي نهاية هذا الصراع تنتصر العوامل الهدمية الخارجية فتسوي الجبال، وتخفض من ارتفاعاتها بالتدريج في محاولة للوصول بها إلى مستوي سطح البحر، ولذلك فإن كل سهول ومنخفضات اليابسة الحالية كانت في يوم من الايام جبالا شاهقة، ثم برتها عوالم التجوية والتحات والتعرية حتي أوصلتها إلى مستوياتها الحالية، وأن الكتل الصخرية القديمة التي تعرف باسم الرواسخ (أو المجن) وهي كتل مستقرة نسبيا موجودة في أواسط القارات ما هي في الحقيقة إلا جذور السلاسل الجبلية القديمة التي تم بريها.
هذه العمليات المعقدة من الصراع بين القوي البانية في داخل الأرض والقوي الهدمية من خارجها هي التي أدت (بتخطيط من الخالق سبحانه وتعالى) إلى بناء القارات، ورفعها فوق مستوي البحار والمحيطات على هيئة مجموعات من أطواف ومنظومات وسلاسل وأحزمة جبلية شاهقة ظلت تضاف إلى بعضها البعض بانتظام وبطء لتزيد من مساحة القارات، التي كانت في بادئ الامر جبلية وعرة، لا تسمح وعورتها بعمرانها، ثم بدأت عوامل التعرية في الأخذ من تلك الجبال الشاهقة بالتدريج حتي حولتها إلى السهول الواسعة، والهضاب والنجود المنخفضة والأودية المحفورة والرواسخ الثابتة التي تشكل اواسط القارات اليوم حتي وصلت الأرض إلى صورتها المناسبة للعمران بواسطة الإنسان، ولذلك يمن علينا ربنا تبارك وتعالى بتمهيد الأرض، ويلوم المنكرين للبعث بتوجيه هذا اللون من الاستفهام التقريري، التوبيخي، التقريعي الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى.
ألم نجعل الأرض مهادا؟ أي ألم نجعل لكم الأرض فراشا موطأ كالمهد لتمكينكم من الاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها، والانتفاع بما اودعناه لكم فيها كما اشار صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن رحمه الله لأن الأرض لو بقيت جبالا شاهقة الارتفاع، متشابكة التضاريس، معدومة الممرات والمسالك، لما أمكن العيش على سطحها فسبحان الذي أنزل هذه اللفتة القرآنية المبهرة في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين!!
والجبال أوتادا في منظور العلوم الحديثة من الأمور المشاهدة أن سطح الأرض ليس تام الاستواء، وذلك بسبب اختلاف التركيب الكيميائي والمعدني، وبالتالي اختلاف كثافة الصخور المكونة لمختلف أجزاء الغلاف الصخري للأرض، فهناك قمم عالية للسلاسل الجبلية، وتنخفض تلك القمم السامقة إلى التلال، ثم الروابي أو الربي (جمع ربوة أو رابية) أو الآكام (جمع أكمة) أو النتوءات الأرضية، ثم الهضاب أو النجود (جمع نجد) ثم السهول، ثم المنخفضات الأرضية والبحرية.
ويبلغ ارتفاع أعلى قمة على سطح الأرض (وهي قمة جبل إفرست) في سلسلة جبال الهيمالايا 8840 مترا تقريبا فوق مستوي سطح البحر بينما يقدر منسوب اخفض نقطة على سطح اليابسة (وهي حوض البحر الميت) بحوالي 395 مترا تحت مستوي سطح البحر، ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسة بنحو 840 مترا فوق مستوي سطح البحر، ويبلغ منسوب اكثر اغوار المحيطات عمقا 10800 متر (وهو غور ماريا نوس في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين) بينما يبلغ متوسط اعماق المحيطات نحو اربعة كيلو مترات (3729- 4500 متر) تحت مستوي سطح البحر.
ويبلغ الفارق بين أعلى قمة على اليابسة وأخفض نقطة في قيعان المحيطات 8840+10، 800=19640 مترا (أي أقل قليلا من عشرين كيلو مترا).
وهذا الفارق بين أعلى قمة على سطح اليابسة وأخفض نقطة في أغوار قيعان البحار العميقة والمحيطات إذا قورن بمتوسط نصف قطر الأرض والمقدر بنحو 6371 كيلو مترا فإن النسبة لا تكاد تتعدي 0، 003 ـ، وهذه النسبة الضئيلة تلعب دورا مهما في معاونة عوامل التعرية المختلفة على بري صخور مرتفعات الأرض، وإلقاء الفتات الناتج عنها في المنخفضات في دورات متعاقبة تعمل على تسوية سطح الأرض، وتكوين التربة، وتركيز الخامات المعدنية، وجعل الأرض صالحة للعمران كما سبق أن أسلفنا.
كذلك فإن الأدلة العلمية التي تراكمت على مدي القرنين التاسع عشر والعشرين تشير إلى أن الغلاف الصخري للأرض في حالة توازن تام، وإذا تعرض هذا التوازن إلى الاختلال في أية نقطة على سطح الأرض فإن تعديله يتم مباشرة.
ومن هذه الأدلة أن القشرة الأرضية تنخفض إلى أسفل على هيئة منخفضات أرضية عند تعرضها لأحمال زائدة، وترتفع إلى أعلى على هيئة نتوءات أرضية عند إزالة تلك الأحمال عنها، ويتم ذلك بما يسمي باسم التضاغط والارتداد التضاغطي. الذي يتم من اجل المحافظة على الاتزان الأرضي، ومن أمثلة ذلك ما ينتج عن تجمع الجليد بسمك كبير على اليابسة ثم انصهاره، أو عند تخزين الماء بملايين الامتار المكعبة أمام السدود ثم تصريفه، أو بتراكم ملايين الاطنان من الترسبات أمام السدود، ثم إزالتها، أو بتساقط نواتج الثورات البركانية العنيفة حول عدد من فوهات البراكين ثم تعريتها.
ففي العهد الحديث بدأت في الانصهار تراكمات الجليد السميكة التي كانت قد تجمعت على بعض اجزاء اليابسة من نصف الكرة الشمالي منذ نحو المليوني سنة (خلال واحد من اكبر العصور الجليدية التي مرت بها الأرض)، ونتيجة لذلك بدأت الأرض بالارتفاع التدريجي في مناطق الانصهار التدريجي للجليد لتحقيق التوازن التضاغطي للارض، وهو من سنن الله فيها، وقد بلغ ارتفاع الأرض بذلك 330 مترا في منطقة خليج هدسون في شمال أمريكا الشمالية، ونحو المائة متر حول بحر البلطيق حيث لايزال ارتفاع الأرض مستمرا.
وأمام كثير من السدود التي أقيمت على مجاري الانهار تسببت بلايين الامتار المكعبة من المياه وملايين الاطنان من الرسوبيات التي تجمعت أمام تلك السدود في حدوث انخفاضات عامة في مناسيب المنطقة، وزيادة ملحوظة في نشاطها الزلزالي، يفسر ذلك بأن ألواح الغلاف الصخري المكونة للقارات (والتي يتراوح سمك كل منها بين المائة والمائة وخمسين كيلو مترا) يغلب على تركيبها صخور ذات كثافة منخفضة نسبيا، بينما يغلب على تركيب ألواح الغلاف الصخري المكونة لقيعان البحار والمحيطات صخور ذات كثافة عالية نسبيا (ولذلك لا يتجاوز سمك الواحد منها سبعين كيلو مترا فقط).
وكل من ألواح الغلاف الصخري القارية والمحيطية يطفو فوق نطاق الضعف الأرضي الأعلى كثافة وهو نطاق لدن (مرن)، شبه منصهر، عالي اللزوجة ولذلك فهو يتأثر بالضغوط فوقه ويتحرك استجابة لها.
وبالمثل فإن قشرة الأرض المكونة لكتل القارات يتراوح سمكها بين 30 و40 كيلو مترا تقريبا ويغلب على تركيبها الصخور الجرانيتية والتي تغطي أحيانا بتتابعات رقيقة ومتفاوتة السمك من الصخور الرسوبية (ومتوسط كثافة الصخور الجرانيتية يبلغ 2، 7 جرام للسنتيمتر المكعب) بينما يتراوح سمك قشرة الأرض المكونة لقيعان البحار والمحيطات بين 5 و8 كيلو مترات فقط، ويغلب على تركيبها الصخور البازلتية التي قد تتبادل مع الصخور الرسوبية أو تتغطي بطبقات رقيقة منها (ويبلغ متوسط سمك الصخور البازلتية 2، 9 جرام للسنتيمتر المكعب)، لذلك تطفو كتل القارات فوق قيعان البحار والمحيطات.
وبنفس هذا التصور يمكن تفسير الاختلاف في تضاريس سطح الأرض على أساس من التباين في كثافة الصخور المكونة لكل شكل من أشكال تلك التضاريس، فالمرتفعات على سطح اليابسة لابد وأن يغلب على تكوينها صخور أقل كثافة من الصخور المحيطة بها، ومن ثم فلابد وأن يكون لها امتدادات من صخورها الخفيفة نسبيا في داخل الصخور الأعلى كثافة المحيطة بها، ومن هنا كان الاستنتاج بأن الجبال لابد لها من جذور عميقة تخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل لتطفو في نطاق الضعف الأرضي، وهنا تحكمها قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات.
وقد أيدت قياسات عجلة الجاذبية الأرضية هذا الاستنتاج بإشارتها إلى قيم أقل من المفروض نظريا في المناطق الجبلية، وإلي قيم أعلى من المفروض في المنخفضات الأرضية وفوق قيعان البحار والمحيطات، ويعتبر انكشاف جذور الجبال القديمة في اواسط القارات مما يثبت حدوث عمليات إعادة التعديل التضاغطي في الغلاف الصخري للأرض.
وبفهم دورة حياة الجبال ثبت أن كل نتوء أرضي فوق مستوي سطح البحر له امتداد في داخل الغلاف الصخري للارض يتراوح طوله بين 10 و15 ضعف ارتفاعه، وكلما كان الارتفاع فوق مستوي سطح البحر كبيرا تضاعف طول الجزء الغائر في الأرض امتدادا إلى الداخل، وعلى ذلك فإن قمة مثل افرست لا يكاد ارتفاعها فوق مستوي سطح البحر يصل إلى تسعة كيلو مترات (8848 مترا) لها امتداد في داخل الغلاف الصخري للارض يزيد عن المائة والثلاثين كيلو مترا، يخترق الغلاف الصخري للارض بالكامل ليطفو في نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق شبه منصهر، لدن أي مرن، عالي الكثافة واللزوجة، تحكمه في ذلك قوانين الطفو كما تحكم جبال الجليد الطافية في مياه المحيطات، فكلما برت عوامل التعرية قمم الجبال ارتفعت تلك الجبال إلى أعلى، وتظل عملية الارتفاع تلك حتي يخرج جذر الجبل من نطاق الضعف الأرضي بالكامل، وحينئذ يتوقف الجبل عن الحركة، ويتم بريه حتي يصل سمكه إلى متوسط سمك اللوح الأرضي الذي يحمله، وبذلك يظهر جذر الجبل على سطح الأرض، وبه من الثروات الأرضية ما لا يمكن ان يتكون إلا تحت ظروف استثنائية من الضغط والحرارة لا تتوفر إلى في جذور الجبال.
فسبحان الذي وصف الجبال من قبل ألف وأربعمائة سنة (بالأوتاد) وهي لفظة واحدة تصف كلا من الشكل الخارجي للجبل، وامتداده الداخلي ووظيفته، لأن الوتد اغلبه يدفن في الأرض، وأقله يظهر على السطح، ووظيفته التثبيت، وقد أثبتت علوم الأرض في العقود المتأخرة من القرن العشرين أن هكذا الجبال، بعد ان ظل وصف الجبال إلى مشارف التسعينيات من القرن العشرين قاصرا على أنها مجرد نتوءات فوق سطح الأرض، واختلفوا في تحديد حد ادني لارتفاع تلك النتوءات الأرضية اختلافا كبيرا، وفي السبق القرآني بوصف الجبال بأنها اوتاد تأكيد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض حيث لم يكن لأحد من البشر إلمام بامتدادات الجبال الداخلية الا بعد نزول الوحي بالقرآن بأكثر من إثني عشر قرنا فصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. اهـ..